للاشتراك بمجموعة الفاجومى

الجمعة، ديسمبر ٠٨، ٢٠٠٦

مصر 101: الإيمان بالروحانيات، وأرواح الأسلاف

مصر 101: الإيمان بالروحانيات، وأرواح الأسلاف
لقد قال عميد علماء المصريات الغربيين ذو العقلية الاستعمارية الآن جريدينر في كتابة (Egypt of the pharaohs) " إن التاريخ الحقيقي لا يكون قابلا للتفكير فيه بلا معرفة حقيقة للعلاقات الشخصية في خلاله، و لقد أظهر تأريخ للعصر العربي في مصر سلسلة لا تكاد تنقطع من الصراعات المريرة" لقد تكلم هذا المستعمر البريطاني عن الغازيين العرب لمصر والذين اتخذوها مسرحا لأفعالهم، ولم يكن يتحدث عن المصريين أنفسهم. وبهذا يكون قد وقع في مغالطة كبيرة في حق مصر. فمصر الحقيقية لا يمكن أن تفهم من حيث تاريخها الماضي والمعاصر بلا فهم لإيمان بالروحانيات، وأرواح الأسلاف. لقد جاء في تقرير لجريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 29 يناير سنة 1999 عن مؤتمر علماء الإنسان المنعقد في القاهرة خلال نفس الفترة، والذي حضرة عدد كبير من العلماء المصريين ، أن هناك حوالي 2850 احتفال ما بين إقليمي ومحلي يحضره أكثر من 50 % من الشعب المصري ، مازال مرتبطا بالاعتقادات المصرية القديمة في أرواح الأجداد والقابلية للتواصل من خلالهم ومعهم. إن الأضرحة المقامة لمن أحبهم المصريين والتي تمتلئ بها ربوع مصر. هي ما يطلق عليها العلماء الغربيين الأكاديميين " الآلهة المحلية" . إن هذه الأضرحة يزورها عدد كبير من المصريين من أنحاء البلاد المختلفة، ولم يحدث أن وجدت أي نوع من المنافسة فيما بين أصحاب الأضرحة هذه. إن علماء المصريات من الغربيين يقسمون " الآلهة المصرية" إلى ألهه كونية وإقليمية ومحلية، ويضيفون بأننا لا نعرف إلا القليل عن هذه الآلهة المحلية. مما يظهر عدم معرفتهم للمصريين على الإطلاق. وبما أن كل شئ أنبثق عن مصدر واحد فالتركيب الاجتماعي المصري القديم (و عمليا الحديث أيضا) ليس إلا سلسلة طويلة من أفعال السلف والتي استمرت من آباء المصريين الروحيين إليهم حتى يومنا هذا. و ينتشر هذا التفكير المنطقي في أنحاء أفريقيا كلها وهو لا يتعارض أبدا مع فكرة وجود أله خالق لهذا الكون بما يحويه، لأن أفعال السلف ما هي إلا نتيجة لهذا الخلق واستمراره. لقد أصبح أوزير( أوزوريس) الجد الأعلى ذو الطبيعة الإلهية، الأب لأرواح كل المصريين ، ورمزا لأملهم في البعث و الخلود، والذي لم يكن ليتحقق إلا عن طريق الموت والبعث من جديد. لقد كان أوزوريس يمثل النماء و عملية الدوران في الكون، وبالتالي أصبح أيضا يعرف على انه روح ( أو طاقات) الزرع والأشجار و الحيوانات و الزواحف و الطيور الخ… لقد كانت أهمية أرواح الأسلاف تنبع عامة من الاعتقاد شبة العالمي بأن روح الإنسان تستمر بعد الموت. فروح الرجل الذي عاش طويلا تكون نشيطة وقوية وتنتقل للعالم الآخر بقوتها الروحية هذه والتي تساعد وتحمى نسل أسرته، كذلك يصبح حلقة الوصل بين عائلته و القوة الغير معروفة التي تتحكم في الكون. و بالتالي وجب تجهيزه بكل ما قد يحتاجه بعد موته و انتقاله للعالم الآخر، و تدفن معه بعض ما اكتسبته روحه من ممتلكات في خلال حياتها الأرضية. يطلق المصريون القدماء على روح الأسلاف لفظ جينيا / جين (وينطق العرب نفس الكلمة بجن بتعطيش الجيم). و لقد وجد هذا اللفظ المصري القديم طريقة الى الكثير من الأماكن في صحراء أفريقيا السفلي، فنجد خليج الجينيا ودولة جينيا وبالطبع أشهرهم على الإطلاق مدينة جينيا و الواقعة على نهر البانى. و لقد وجد هذا المصطلح ايضا طريقة الى أوروبا فنجد أن "جين" في الإنجليزية تعنى الصفات الموروثة من ماضي أحدهم. و الروح من الممكن أن تكون صالحة أو طالحة، و كلاهما ذو نفوذ على الأحياء. ومن ثم كان الناس ومازالوا يهتمون اهتماما شديدا بأبعاد الأرواح الشريرة و استرضاء الطيبة. ولقد أدى هذا الاهتمام إلى تكوين جماعات من الكهنة لممارسة قدرات الاتصال بالأرواح و التمرين عليها.(الكاتب لا يملك هذه القدرات) وكان من المعتقد أن أرواح الأسلاف تتفاعل بحرية مع الأحياء خلال رحلاتهم على الأرض، بل وكانت تبعث بتحذيرات أو تشجيع وتوجيهات أو حتى لوم وعتاب للأحياء. و كان هذا عادة ما يحدث عن طريق العديد من الطرق كالأحلام مثلا، حين يغادر جزء من كياننا الغير مادي (الروح) الجسد، أو عن طريق رسائل من خلال الطيور أو الحيوانات أو النسيم أو اهتزازات الشموع الخ… أما الأرواح الشريرة أو المؤذية، فهي دائما ما تكون مستعدة لألحاق الضرر بالآخرين. ولقد كان من المعتقد أن قوتهم الشريرة أكبر منها على الأرض نتيجة لخروجهم من أجسادهم. وعندما كانت تصاب أحد العائلات بشر ما كانوا يقدمون قرابين لأرضاء هذه الأرواح. التفاعل مع العالم الخارجي إن مجتمعنا الحديثة يعترف بأننا نستخدم 5% فقط من قدراتنا العقلية. أما الروحانيين فأنهم بالتأكيد يستخدمون من قدراتهم العقلية ما يفوق ذلك بكثير. ذلك لأنهم قادرين على أدراك و الولوج في الطاقات الخفية من حولنا، عن طريق التفاعل مع الكون من خلال مكوناته العديدة. فلكي يحقق المرء الصحة و الاستقرار و الرخاء يجب عليه أن يصبح في وئام مع الطبيعة من حوله. فلقد حقق القدماء ذلك عن طريق الاتصال بأسلافهم و الأرواح الأخرى. و العرافين و الروحيين يحققون ذلك عن طريق ترجمة القوة الروحية وتوفير الطرق اللازمة للتأثير فيها. إن الريفيين في مصر القديمة والحديثة، مثلهم مثل السونجاهى المتواجدين على نهر النيجر و إقليم الساحل، يؤمنون بأن العالم يتكون من أرضين وسبع سماوات، و إن الله في السماء السابعة و هي أبعدهم عن الأرض، والملائكة العابدين في السماوات من الثانية حتى السادسة بينما تسكن أرواح الأسلاف في السماء الأولى و هي أقربهم للأرض. و تكون السماوات أشبه بمنطقة نفوذ لساكنيها. طبقا لنظام النشأة التقليدي في نظريات الخلق، فأن أرواح الأسلاف تملأ الفراغ ما بين العالم الطبيعي و عالم ما وراء الطبيعة، ويتم ذلك عن طريق ربط نسلهم من الأحياء بأجدادهم الأوليين ولأنهم قريبين من حيث الزمان و المكان، و كذلك لأنهم كانوا إلى عهد قريب يمشون بين الأحياء فأنهم يميلون إلى التدخل في شئون الحياة اليومية. ولقد كان هذا التدخل مألوفا خاصة في حالات الوفاة القريبة والتي كان يعتقد أنها تقضي أسابيع أو شهور في مرحلة انتقالية بين الحياة و الموت. إن الكثيرين من أتباع الأديان المختلفة يمارسون طقوس خاصة لاسترضاء هذه الأرواح، وتشجيعهم على تقبل فكرة موتهم بهدوء و أعاده النظام الاجتماعي الذي أختل بموتهم إلى طبيعته. و كما ذكرنا سابقا، أن الروح (أو الطاقة) والتي كانت تحرك الجسد البشرى من الميلاد إلى الموت حين غادرته، يمكنها أن تسكن أي مادة أخرى لأي وقت تشاء ، تماما مثل ما فعلت مع جسدها الأول. و من أجل الاتصال بالروح الحرة، التي غادرت جسدها بعد الوفاة، يجب توفير مكان لاستضافتها (طاقة متجسدة كالمادة مثلا) من أجل أن تحتله الروح لبعض الوقت و تنقل ما تريد نقلة لعالم الأحياء من خلاله. ولقد أنشأ المصري القديم الكثير من التماثيل كأماكن استضافة للأرواح بمختلف أنواعها. ولقد كان المصريون يرتدون الكثير من التمائم كما كانت توضع أيضا على أجساد الموتى لكي تقوم الأرواح الخيرة بحمايتها من الأرواح الشريرة. كما كانت المقابر المصرية تزخر بآلاف القلادات غير ذات الصلة بأشياء ذات معنى مثل القواقع و الأسنان الحيوانية و البشرية الخ… ولقد استمرت هذه العادة في الريف المصري إلى الآن كما استمرت أيضا في صحراء أفريقيا السفلي. لم يكن المصريون القدماء شأنهم شأن الأفارقة المحدثون يؤمنون بوجود طبيعة إلهية لتمائمهم، ولم يعتبروهم أبدا ممثلين للإله. فالتمائم و التعاويذ لم تكن إلا مساكن محلية للأرواح، فالروح من الممكن أن تسكن أي شيء بلا أهمية تذكر لطبيعة مادته إذ انه ليس إلا وسط فقط ليس أكثر ولا أقل. فمستخدم التميمة يفصل بين الروح و الوسط الذي تسكنه ، وعلى ذلك فلا يوجد شيء صغير جدا أو غير لائق أو شديد السخافة بالنسبة للروح لتسكنه. و بالتالي إذا غادرت الروح التميمة فأنها لا تعد ذات قيمة بعد ذلك و يمكن الاستغناء عنها. والروح التي غادرت الجسد تحتاج حتما إلى الطاقة لكي تستمر في حماية و مساعدة الأحياء، شأنها في ذلك شأن الإنسان الذي لا يأكل ولا يشرب فيضعف ويموت، فهي إذا أهملت ولم يتم تزويدها بالطعام والشراب لفقدت طاقتها وتحللت أو تحولت إلى صورة أخرى من صور الطاقة. وبالتالي يجب تزويد أرواح الأسلاف بالعطايا و القرابين. و الريفي المصري القديم و المعاصر أيضا، شانه في ذلك شأن الأفارقة المعاصرون، يقدمون العطايا لأرواح أسلافهم راغبين في المحافظة عليهم ليستمروا في حمايتهم ومساعدتهم في شأون حياتهم. و إذا كان علماء المصريات من الغربيين يجدون الأيمان بالروحانيات و أرواح الأسلاف مدعاة للسخرية فليشرحوا لنا إذا اعتقادهم الشخصي في مولد العذراء و موتها ثم بعثها في صورة نصف آدمية ونصف إلهية، هذا الاعتقاد الذي لا يسانده أي سند تاريخي أو أثرى.
طارق المملوك
16-2-2004

ليست هناك تعليقات: